و الجواب أنّه الطبیعة الجسمیّة أی الجسم الطبیعی المرسل، و هی طبیعة
__________________________________________________
قوله: ما الجاری المنجمد … إلى آخره.
ما أفاد ذلک العارف الکامل فی الجواب من کون الجاری المنجمد هو الطبیعة الجسمیّة موافق للصواب، و إن کان التفصیل الذی أفاد و زعم أنّه موافق للتحقیق خلاف الحقّ الحقیق، بل خلاف الآیة الشریفة(1) بالنظر الدقیق، و خلاف ترکیب عبارة الحدیث الشریف، من تقدیم الجاری على المنجمد، و إتیان المنجمد بصیغة الانفعال الّتی هی للقبول و العروض.
و التحقیق: أنّ الطبیعة الجسمیّة هی الجاریة جریاناً ذاتیّاً، و المُتغیّرة تغیّراً جوهریّاً، و المُتبدّلة تبدّلًا ماهویّاً فی کلِّ آنٍ، بل التعبیر عنها بالآن من ضیق العبارة، و الأولى أن یقال: جریاناً دائمیأ و تغییراً اتصالیّاً، کما أفاد ذلک بأوضح بیان فی الکتاب الإلهی بالتمثیل بمرور السحاب(1) الذی هو مرور دائمی بلا تخلّل السُکون الحرکة و التبدیل وافقه فی الصورة النوعیّة الّتی شیئیّة الشیء بها، و لولاها لم یکن الشیء مذکوراً، بل
سیّاله بذاتها من دون میعان بل فی جمود، و متحرکة بنفسها مع کونها ثابتة فی ذاتها، کما قال عزّ من قائل: «وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِیَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِی أَتْقَنَ کُلَّ شَیْءٍ»(1) أمّا معنى کونها سیّالة متحرّکة بذاتها فهو أنَّ الحرکة من لوازمها من حیث قابلیتها و استعدادها الذاتی؛ لأنَّ تحرّکها النفسی تحریکها
__________________________________________________
کانت الصورة نفس التجدّد و السیلان کما ساق إلیه البرهان(2) و لیست الحرکة فی الأحوال فحسب، و إن کانت التغیّرات العرضیّة و بحسب الأحوال لازمة للتغیرات الذاتیّة و کواشف عنها، و ثبوت الذات فی الحقائق الّتی بحسب ذاتها واقعة تحت تصرّف الزمان غیر جائز على شریعة الحکمة و البرهان، کما أوضح سبیله بأتمّ بیان و أصحّ تبیان فی الکتاب الحکیم و القرآن المحکم القویم، حیث نسب جمود الجبال- الّتی هی أوضح مصادیق الطبیعة الجسمیّة- و ثبوتها إلى الزعم و الحسبان، و أثبت الحرکة و المرور و السیلان لها مؤکّداً باسمیّة الجملة و حالیّتها مع إتیان المسند بالفعل المضارع الدالّ على التغیّر التجدّدی و السیلان الاتّصالی، و أوضحه بالتمثیل بمرور السحاب فی الحس الّذی کان متّصل الحرکة و دائم السیلان.
و لیس فی هذه الرسالة المختصرة الموضوعة للرمز و الإشارة مجال بیان هذه الحقائق و تفصیلها، و لم تحضرنی الرسالة(3) الّتی ذکرها حتّى أتصدّى للحکومة بین هذا العارف الکامل و ذلک الفیلسوف المتألّه(4) رضی اللَّه عنهما و إن کانت الحکومة بینهما خارجة عن وسعی مع قصور الباع و قلّة الاطّلاع.
التسخیری الشوقى، و کون التحریک من قبل النفس(5) لا ینافی کون حرکتها بذاتها؛ بمعنى أنَّ القبول المخمّر فی طینتها یبعثها على الطلب من النفس؛ لأنَّ تعیین حدود الحرکة و جهاتها لا یمکن أن یکون لذاتها، بل إنّما هو من قبل النفس و إرادتها، و من ذلک قیل: النفس عدد متحرّک، فهی المتحرّک المُحرّک.
و أمّا ثبات الطبیعة الجسمیّة و جمودها، فمن جهة أنَّ ذاتها لیست نفس الحرکة و السیلان کما زعم بعض الأساتیذ الأعلام(6) بل هی ذات ثابتة بنفسها و الحرکة عارضة لها من حیث القابلیّة عروض اللوازم الذاتیّة لمعروضها، و تحقیق ذلک مبسوطاً مذکور فی رسالتنا المُسمّاة: ب «مرقاة الأسرار»(7) فی بیان حدوث العالم حدوثاً زمانیّاً.
ثمَّ إنَّ ذلک التغییر مبدأ سائر التغیّرات الّتی بعدها أیّ تغیّر کان مع جمودها فی الظاهر على حالها، فالعالم الجسمانی بمجموعه مُتغیّر و مُتحرّک دائماً یتبدّل تعیّنه مع الآنات، ففی کلّ آن یوجد مُتعیّن غیر المتعیّن الأوّل، و العین الواحدة الّتی یطرأ علیها هذه التغییرات و هی بحالها هو الجسم الطبیعی الثابت بذاته المُتغیّر بأحواله، و فی الآیة إیماء إلى ذلک حیث قال: «وَ تَرَى الْجِبالَ» أی الحقیقة الأصلیة الّتی هی طبیعة الجسم «تَحْسَبُها جامِدَةً» ثابتة حین تمرّ و تعرضها الحرکة، فالمرور حال عارض و الجمود و الثبات ذاتیّ.
و هکذا ینبغی أن یفهم تجدّد الخلق مع الآنات، لا کما ذهب بعض الأعلام إلیه من أنَّ الطبیعة الجسمیّة ذاتها سیالة بمعنى أنّها نفس الحرکة و السیلان(6) و لا کما زعم بعض المُتصوّفة من أنَّ المُتبدّل هو الوجودات کلّها
__________________________________________________
قوله: و لا کما زعم بعض المُتصوّفة … إلى آخره.
ما ذکره ذلک البعض له وجه صحیح موافق لمشرب رحیق عرفانی و مأخذ تحقیقی إیمانی؛ و هو أنّ القیّوم بالذات و الثابت بجمیع الجهات، الذی لا طریق للتّغییر فی کبریاء قدسه، و لا أثر للتّبدیل حول حریم انسه، هو الذات الأحدیة جلّ برهانه و عظم شأنه و سلطانه، و أمّا الموجودات الإمکانیّة فهی بالجهات المُنتسبة إلیه تعالى کذلک، و أمّا بجهات نفسیّاتها و حیثیّات ذاتها فهی متغیّرات الهویّة متبدّلات الماهیّة و الحقیقة من اللیس إلى الأیس، بل سلسلة الموجودات بقضّها و قضیضها و أوجها و حضیضها دائمة التبدّل متّصلة التغیّر فی انوجاد و انعدام بحسب حکومة الأسماء الإلهیّة، فإنّ اللَّه تعالى بحسب اسم «کُلَّ یَوْمٍ هُوَ فِی شَأْنٍ»(8) یخرج الموجودات من اللیس إلى الأیس و من الأیس إلى اللیس.
و أیضاً إنّ مراتب الوجود من الغیب و الشهود لها بسطٌ ببسط بساط الرحمة الرحمانیّة و الرحیمیّة تحت حکومة اسم «الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ» و قبضٌ بجمع هذا البساط تحت تصرّف اسم «الْواحِدُ الْقَهَّارُ»(9) و أمثال ذلک من الحرکات و التبدّلات الّتی للموجودات دون مبدئها و للمبدَعات دون مبدعِها، و لیست هذه الحرکات الّتی عرفتها مختصّة بعالم المادّة و المادیّات و سلسلة السافلات من القاطنین فی موطن الزمان و الزمانیّات، فتبصّر و لا تخلط بین المشارب فإنَّ لکلّ قوم لساناً و لکلّ کلام مع
و العین الواحدة هو الوجود الحقیقی الذی بزعمهم هو اللَّه(10) تعالى عمّا یقولون علوّاً کبیراً.
ثمّ اعلم أنَّ هذه الطبیعة الجسمیّة هی عرش الرحمن باعتبار، و منها یتصحّح عالم المثال، حیث ورد أنَّ فی العرش مثال کلّ شیء فی هذا
__________________________________________________
کلّ متکلّم مقاماً، کلّم الناس على قدر عقولهم(11) و ما أرسل رسولٌ إلّا بلسان قومه(12)
قوله قدّس سرّه: و منها یتصحّح عالم المثال … إلى آخره.
ما أشار إلیه هاهنا لتصحیح عالم المثال ذکره فی شرح توحید صدوق الطائفة رضی اللَّه عنه أیضاً، و الذی دعاه إلى ذلک ما زعم من عدم إمکان وجود الصور المقداریّة بلا مادّة جسمیّة کما صرّح به و ادّعى الوضوح و التبیّن فیه.
و لیس هذا بکثیر الإشکال عندنا؛ فإنّ المقدار من لوازم الجسم الطبیعیّ، بل الفرق بینهما بالإبهام و التعیین کما هو المقرّر فی محلّه و المبیّن عند أهله(13) و قد ثبت فی مدارک أصحاب الحکمة المتعالیة أنّ احتیاج الصورة إلى المادّة لقصورها و نقصانها و عدم تشخّصها فی بدء وجودها، و أمّا إذا صارت تامّة متشخّصة بالذات فلا احتیاج لها إلّا إلى فاعلها التامّ و قیّومها المطلق، فاستقلّت الصورة فی الوجود بلا مادّة قابلة(14)
ولیت شعری ما المادة القابلة فی الصور الخیالیّة الّتی فی الإنسان الصغیر؟ هل الجسم مادّة لها، أو النفس بقوّة وجودها و همّتها توجدها بلا مادّة؟ و العجب من ذلک
العالم(15) و لیس ذلک کما اشتهر بین أصحاب الإشراق، فإنَّ وجود الصورة المقداریّة بدون المادّة بیّن الاستحالة، بل إنّما یتیسّر فهم ذلک بعد ما تحقّقت
__________________________________________________
العارف العظیم الشأن مع کثرة غوره فی مباحث علمیّة و عرفانیّة کیف ذهل عن هذه الدقائق؟ و هذه الغفلة و الذهول صارت منشأً للردّ فی کثیر من المباحث العلمیّة على شیخ مشایخ أرباب الحکمة و المعرفة صدر صدور الحکماء و المتألّهین رضى اللَّه تعالى عنه و لیس هاهنا مقام ذکرها و تفصیلها.
و لقد اشیر إلى ما ذکرنا فی لباس الرمز فی الکتاب الإلهی بقوله: «وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِیَ الْحَیَوانُ»(16) فإنّ مقتضى سریان الحیاة فی شراشر دار الآخرة- الّتی أوّل منزلها العالم البرزخى المضاهی للعالم المثالی، و بإزائه فی قوس الصعود کما هو مقابله فی قوس النزول- أن لا یکون فیها المادّة الجسمیّة الّتی هی مبدأ لکلّ موت و لیست فیها حیاة أصلًا.
و اشیر إلى ذلک أیضاً فی النبوی المشهور:
(الدنیا مزرعة الآخرة)(17)
فإنّ الدنیا إذا کانت مزرعة للآخرة کانت الآخرة دار الحصاد، فإذا کانت الآخرة دار الحصاد لم یکن فیها قابلیّة و هیولویّة، فإنّ الهیولى بذاتها محلّ الزرع، و وجودها بلا زرع لغو و عبث تعالى عن أن یکون فی ملکه اللغو و العبث.
و هاهنا أسرار و رموز بعضها راجعة إلى أحوال أهل البرزخ و القیامة من السعداء و الأشقیاء و کیفیة الانتقالات الواقعة فی الدار الآخرة، لیس هاهنا محلّ ذکرها و رخصة إفشاء أمرها، و لعلّ اللَّه یُحدث بعد ذلک أمرا، و وفّقنا لوضع رسالة فیها فرداً.
أنَّ الجسم الکلّ بعد تقومه بما ینبغی أن یتقوّم، و قبل أن تعرضه کدورة الأعراض، أو یلحقه صدأ الآثار و الخواص- حقیقة نوریّة فی نهایة الصفاء و الصقالة بحیث کأنّه مرآة یحاذی بها شطر النفس الکلیّة الّتی فیها جمیع الحقائق العقلیّة منطبع منها إلیه کلّ الرقائق النوریّة، بل هو کما قال الشیخ الیونانی فی مرموزاته: إنَّ الفلک موضوع فی وسط النفس، فلا یخرج منها شیء إلّا و قد سلک من طریق الجسم إلى الحسّ، و یمکن أن یشیر إلى ذلک قوله سبحانه: «یُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ»(18) و قوله: «یَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَیْنَهُنَّ»(19) إلى غیر ذلک من الآیات، و قد بسطنا القول فی ذلک فی الموضع اللائق.
1) النمل: 88.
2) الأسفار 3: 80 و ما بعدها.
3) و هی رسالة مرقاة الأسرار.
4) هو الفیض الکاشانی قدّس سرّه.
5) فی نسخة «س» لأن تحرکها النفس؛ لأنّ تحریکها إنّما هو من النفس و ذلک. و فی «ر» لأن تحرکها النفس لأن تحریکها إنّما أمر من النفس و ذلک بدل: لأنّ تحرکها النفسی تحریکها التسخیری الشوقی و کون التحریک من قبل النفس.
6) اصول المعارف للفیض الکاشانی: 85.
7) هی رسالة فی مسألة ربط الحادث بالقدیم، و صدور المتغیر عن الثابت المقیم، و ذکر فیها فی قاعدة أن الحرکة لیس من ذاتیات الطبیعة لکونها عرضاً، صفحة: 6.
8) الرحمن: 29.
9) الرعد: 16.
10) شرح فصوص الحکم للقیصری: 117، 210، 287.
11) اقتباس من حدیث رسول اللَّه صلى اللَّه علیه و آله، اصول الکافی 1: 18/ 15.
12) اقتباس من سورة إبراهیم آیة: 4.
13) الأسفار 5: 2.
14) نفس المصدر 5: 145 و ما بعدها و 256.
15) الدعوات لقطب الدین الراوندی: 60/ 149، روضة الواعظین 1: 47، بحار الأنوار 55: 36/ 58.
16) العنکبوت: 64.
17) عوالی اللئالی 1: 267/ 66، کنوز الحقائق لعبد الرؤوف المناوی: 132.
18) السجدة: 5.
19) الطلاق: 12.