المراد بالقوّة المربّیة فی قوى النفس النباتیّة هی النامیة، و لعلّ المُراد بالفکر فی قوى الناطقة هی القوّة المدرکة أعمّ من أن تکون مدرکة الصور أو المعانی، و بالذکر القوّة الحافظة کذلک، و بالعلم القوّة النظریّة، و بالحلم القوّة العملیّة(1) و بالنباهة القوّة الحدسیّة، و یمکن فی الثلاثة الأول أن تکون هی مراتب القوّة النظریّة و فی الأخیرتین کما ذکرنا.
و بالجملة: لا ریب أنَّ القوى إذا استعملت فیما یلیق بها و فیما تخلق لأجلها یورث النزاهة و التجرّد من المواد، و التقدّس عن مذامّ الصفات و الأخلاق على الوجه السداد، و ینجی من الوقوع فی شکوک الأهواء و التورّط فی مضلّات الآراء، و یوجب العلم بحقائق الأشیاء و المعرفة بکیفیّة الترقّی من المُسبّبات إلى أسبابها، بل یورث التحقّق بتلک الحقائق و التعلّق بهذه الرقائق کما قیل فی مرتبة العقل بالفعل.
و أمّا قوى النفس الکلیّة الإلهیّة، فاعلم أنّ کلمة «فی» کلّما وردت فی مثل هذه المواضع فهی للسببیّة، مثلها فی قوله صلّى اللَّه علیه و آله: )
إنّ امرأة دخلت النار فی هرّة)(2)
فالبقاء الدائم لا یمکن إلّا بالفناء عن کلّ شیء حتّى عن الفناء(3) و النعیم الدائم لا یحصل إلّا بتحمّل المشاقّ و مقاسات الشدائد و استدامة هذا الذواق، و کذا العزّة الثابتة عند اللَّه لا تنال إلّا بالذّل بین
الناس «تِلْکَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً»(4) و کذا الافتقار الکلّی إلى اللَّه لا یحصل إلّا بالإیاس عن الناس، و إنّهم لا یملکون ضرّاً و لا نفعاً بالبرهان و القیاس و درجة الصابرین لا یوصل إلیها إلّا بأن «لا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَکُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاکُمْ»(5)
و فی قوله صلوات اللَّه علیه: «و العقل وسط الکل» تصریح بأنَّ هذه النفوس کالدوائر بالعقل، فهو بمنزلة المرکز، غیر أنَّ المرکز فی الدوائر العقلیّة هو المحیط بالدائرة بخلافه فی الدوائر الجسمانیة، و من ذلک یظهر أیضاً أنّ الکلّ قشور لهذا اللّب، و أنّها مراتب تنزلات ذلک النور من شبّ إلى دبّ(6)
و ذکر الآیتین للاستشهاد على أنَّ بدو هذه الأنفس من اللَّه ذی الجلال و الإکرام و إلیه عودها بالکمال، فقوله تعالى: «وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی»(7) لبیان الابتداء، و قوله جلّ و علا: «یا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِی إِلى رَبِّکِ راضِیَةً مَرْضِیَّةً»(8) لبیان الإعادة، فتبصر.
__________________________________________________
قوله: دبّ إلى شبّ.
کذا فی النُسخة الّتی عندنا، و الظاهر أنّه من خطأ الناسخ، و الصحیح من شبّ إلى دبّ؛ أی من الشباب إلى أن دبّ على العصا. قاموس(9)
1) فی نسخة «ل»: العلمیة.
2) مسند أحمد بن حنبل 2: 507.
3) فی نسخة «ل»: الغناء.
4) القصص: 83.
5) الحدید: 23.
6) فی بعض النسخ «من دبّ إلى شب» و الصحیح ما أثبتناه، انظر مجمع الأمثال 1: 628.
7) الحجر: 29، و سورة ص: 72.
8) الفجر: 27- 28.
9) القاموس المحیط: 105.