اعلم أنَّ ما استفید من کلام الإمام علیه السلام فی تحقیق الکفر هو الجواب عن جمیع الأشیاء المُوردة فی السؤال الأوّل، فبالحری أن نفصّل القول فی ذلک على ما اقتبسناه من مشکاة أنوارهم صلوات اللَّه علیهم لتظهر بعض أسرارهم، فنقول: إنَّ السائل سأل:
أوّلًا: عن الکفر و الإیمان بقوله: ما الکفر و الإیمان، فالجواب على ما أفاد الإمام علیه السلام، هو أنَّ الکفر اعتقاد أن یعزب شیء من الظاهر و الباطن و الغیب و الشهادة، أو عالم من العوالم الوجودیّة، أو مرتبة من المراتب الشهودیّة، أو ذرّة من الجلائل و الدقائق، أو حقیقة من الحقائق عن اللَّه جلّ شأنه أو عن صفاته الحسنى؛ إذ لا یعزب عن ربّک من مثقال ذرّة فی الأرض و لا فی السماء، کما لا یعزب عن علمه مثقال ذرة فیهما(1) نص بهذین الأمرین قرانه المجید المُنزّل على رسول الثقلین و إمام العالمین.
أمّا الایمان: فهو التصدیق بأنّ اللَّه جلّ جلاله هو الموجود الحقّ و الثابت-
المُحقّق، و ما سواه هالک باطل أزلًا و أبداً، ما شمّ رائحة الثبوت و الوجود، و لا کتب فی ناصیة إمکانه الشهود، و اللَّه هو الظاهر الباطن، و هو الأول الآخر، و أنَّ له الأسماء الحسنى، و الصفات العلیا لا یشارکه فیها غیره تعالى، ثمّ اعتقاد ما یتبع ذلک من القول بالملائکة و الکتب و الرسل المُکرمین، و عدم التفریق بینهم على الیقین، بل کأنّهم نقاط الدائرة، أو کالحلقة المُفرغة، و أمّا صاحب الدائرة فهو نبیّنا سیّد الأوّلین و الآخرین، و تمام عدّة المُرسلین، و خاتم فصّ الرسالة، و ختم أمر الدنیا و الآخرة، کما یدلّ على هذا المدّعى تلک الألقاب العلیا بعد ما اقیم علیه البرهان، و صدّقه کشف أرباب العیان، و فراسة أهل الإیمان.
و ثانیاً: سأل عن الکفرین، و أجاب عنه الإمام مولى الثقلین من دون رمز فی البیان، بأنّ الکفرین هما: الکفر باللَّه، و الکفر بالشیطان بالمعنى الّذی ذکرنا فی البیان.
و ثالثاً: سأل عن الجنّة و النیران و ما لهما من الشأن، و الجواب- على ما هو المُستفاد من کلام الإمام علیه السلام- أنَّ الجنّة الحقیقیّة هی: التخلّص عن ربقة هذین الکفرین و التوجّه التام إلى خالق الکونین، و رؤیة الکلّ من اللَّه و باللَّه و للَّه و إلى اللَّه، و مُشاهدة أنَّ هاهنا نوراً واحداً حقّاً لا یحوم حوله التعدّد و الکثرة، و صیرورة العبد بحیث لا یرى شیئا إلّا و یرى اللَّه قبله؛ و لذا ورد
(ما فی أشرف مثوبات الأعمال کلا إله إلّا اللَّه)(2)
و (فی أعظم فوائد التخلّق بالصفات أنّه النظر إلى وجه اللَّه).
و بالجملة: جنّة المُقرّبین النظر إلى وجه اللَّه ذی الجلال، و الرجوع إلى مبدأ الکلّ بالکمال، و التقرّب إلیه بالاتّصال، و التخلّق(3) بصفاته الحسنى
بالتفصیل و الإجمال، و مشاهدة جمال ربّ العالمین، الّذی هو مبدأ کلّ حسن و جمال، و عدم رؤیة ما سوى الحقّ المُتعال، بل عدم خطوره بالبال،
فقد ورد فی «الکافی» عن الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام أنَّه قال:
(لو یعلم الناس ما فی فضل معرفة اللَّه تعالى ما مدّوا أعینهم إلى ما متّع اللَّه به الأعداء من زهرة الحیاة الدنیا و نعیمها، و کانت دنیاهم أقلّ عندهم ممّا یطؤونه بأرجلهم، و تنعّموا بمعرفة اللَّه، و تلذّذوا بها تلذّذ من لم یزل فی روضات الجنان مع أولیاء اللَّه)(4)
و ممّا یؤید ما أسسنا: من أن جنّة المقربین هی المعقولات الحقیقیّة من العلم باللَّه و صفاته
ما فی بصائر الدرجات لشیخنا القمّی عن نضر بن سوید قال: سألت أبا عبد اللَّه علیه السلام عن قول اللَّه عزّ و جلّ: «وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ – وَ ماءٍ مَسْکُوبٍ – وَ فاکِهَةٍ کَثِیرَةٍ – لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ»(5) قال: (یا نضر و اللَّه لیس حیث یذهب الناس، إنّما هو العالم و ما یخرج منه)(6)الخبر.
و أمّا النار فهو التقیّد بأحد الکفرین، و حصول فعلیّة الشیطنة و البُعد من اللَّه، و فقدان المعارف الیقینیّة و الکمالات الحقیقیّة: من العلم باللَّه و صفاته، و معرفة ملائکته و کتبه و رسله و الیوم الآخر، و رسوخ العقائد الباطلة المُضادّة للمعارف الحقیقیّة أعاذنا اللَّه منهما بفضله.
و رابعاً: سأل عن الشیطانین، و الجواب أنّ أحدهما هو ما سوى اللَّه باعتبار اعتقاد خفائه تعالى و ظهور الغیر و السوى، و أمّا الآخر فهو ما سواه أیضاً باعتبار ظهور الحقّ على هیاکل الأشیاء و خفاء ما سواه به تعالى، کأنّه سبحانه کالعارض لها فیخفى المعروض به تعالى.
و قد نقل عن ذکر المجوس ما ینتهی إلى ذلک؛ حیث زعموا أنَّ اللَّه تعالى
تفکّر فی نفسه قبل خلق العالم أنّه لو کان له منازع کیف یکون، و هذه فکرة ردیّة خلق اللَّه منها الشیطان الّذی عندهم أهرمن(7)
و قد عرفت أنَّ ذلک کفر أی طائفة من الإسلامیّة و غیرهم، و أنَّ من تدارکته الرحمة الخاصّة الإلهیّة و السابقة الحسنى الأزلیّة قد تبرّأ من هذا الکفر، و رأى أنَّ اللَّه هو الظاهر و الباطن، و أنّه أولى بکلّ شیء من نفسه، و أنَّ ما سواه هالک باطل بذاته و بکلیّته، هذا ما ظهر لی من جوابه علیه السلام عن السؤال الأوّل بفضل اللَّه العلی الأجلّ.
1) یونس: 61.
2) انظر بحار الأنوار 3: 3/ 5.
3) فی نسخة «ل»: التحقق بدل: التخلق.
4) روضة الکافی: 207/ 347.
5) الواقعة: 30- 33.
6) بصائر الدرجات: 505/ 3، و الروایة عن نضر بن قابوس.
7) الملل و النحل للشهرستانی 1: 213.