و الجواب أنّه الطبیعة الکلیّة و العنایة الرحمانیّة و القوّة الجوهریّة الفائضة عن النفس الکلیّة الإلهیّة لتدبیر العوالم المادّیّة من العلویّة و السفلیّة،
__________________________________________________
قوله: فی أنّه سُئل عن الموجَد الموجِد … إلى آخره.
و الآن لک أن تُطبّق الموجَد الموجِد على النفس الکلیّة الإلهیّة على ما سمعت شرحها من ذلک العارف الجلیل، و لیست محتاجة إلى الشرح و التفصیل، و یبقى الوجهان اللّذان أوردهما من أنّ الصّنع و الإیجاد یقال لعالم العقل و النفس من عالم الأمر، و أنّ تینک المرتبتین اللّتین یُعبّر عنهما فی لسان الشرع بعالم الأسماء و الصفات فحسب، فلیستا من عالم الخلق من شیء، فنقول تحقیقاً فی الجواب و تبییناً للصواب:
إنّ کلّ ماله تعلّق بالمادة- أیّ تعلّق کان- تعلّقاً ذاتیّاً أو تعلّقاً فعلیّاً، سواء کان من القوى المنطبعة فیها النازلة فی منزلها الهابطة عن عالم القدس الراحلة عن محلّ- الانس، أو من الموجودات المتوسطة و القاطنین فی البرازخ الملزومة لصفات المادّة و حیثیّاتها، أو من العوالی و الملائکة السماویّة المتعلّقة بها تعلّقاً تدبیریّاً- هو من عالم الخلق، و یُطلق علیه اسمه و یظهر فیه رسمه، و یکون إطلاقه علیه شائعاً فی لسان
…………………………………………………………………………
__________________________________________________
أرباب الحکمة و المعرفة(1) و أهل بیت الوحی و النبوّة.
نعم، هذا حقّ فی المرتبتین السابقتین اللّتین عرفتهما فی تلک المُسودّات، و بالخُصوص المرتبة الاولى الّتی هی نفس المشیّة الّتی هی حقّ مخلوق به.
و من غریب الاتّفاق أنی عثرت على کلام من ذلک العارف الکامل عند التعرّض لکلامه هذا فی کتاب شرح توحید شیخنا القمّی صدوق الطائفة رضی اللَّه تعالى عنه، و هو من أعظم مصنّفات ذلک العارف، و أرفع کتب الشیعة فی المعارف، و لیس عندنا منه إلّا الجُزء الثالث الذی استسعدت لزیارته بعد ما شرعت فی تلک المسودّات، قال رضی اللَّه عنه عند قول مولانا و سیّدنا أبی الحسن الرضا علیه السلام فی تفسیر حروف المعجم:
(إنّ أوّل ما خلق اللَّه عزّ و جل لیعرف به خلقه الکتابة حروف المُعجم)(2)
بعد کلام طویل بهذه العبارة: فلعلّ المعنى- أی معنى الحدیث الشریف- أنّ أوّل ما خلق اللَّه تعالى أوّلیّته باعتبار أنّ أثر الإبداع یقال له الخلق، أو باعتبار أنّ کلّ ما من شأنه أن یتعلّق بالمادّة تعلّقاً أیّ تعلّق کان یُستعمل فیه الخلق، انتهى موضع الحاجة.
و قد صرّح فی کلام أفاده قبیل ذلک الکلام ترکناه مخافة التطویل أنّ الإبداع هو العقل، و أثر الإبداع- الذی هو الحرف- عبارة عن النفس، و هذا الکلام هو الموافق للتحقیق.
و أمّا قوله: «إنّ تینک المرتبتین هما عالم الأسماء و الصفات، و الفرق بینهما أنّ المرتبة العقلیّة هی الأسماء و الصفات الذاتیّة و المرتبة النفسیّة هی الأسماء و الصفات الفعلیّة».
…………………………………………………………………………
__________________________________________________
فهو و إن کان له وجه صحیح، إلّا أنّ الأسماء و الصفات الذاتیّة على الحقیقة هی الّتی ثابتة لذاته المقدّسة المُستجنّة فی الذات المُتعال بحسب الشؤون و الأطوار و التجلّیات الذاتیّة.
و قد حمل ذلک العارف الجلیل قول أبی عبد اللَّه علیه السلام:
(ذاتٌ علّامة سمیعة بصیرة)(3)
على کون الذات الأحدیّة بنفس ذاته الشریفة نائبة مناب هذه الصفات، و قد ورد من طریق أهل البیت علیهم السلام: (لم یزل اللَّه جلّ و عزّ ربّنا و العلم ذاته و لا معلوم، و السمع ذاته و لا مسموع، و البصر ذاته و لا مُبصر، و القُدرة ذاته و لا مقدور)(4) إلى غیر ذلک.
و الحاصل: أنّ الأسماء و الصفات الذاتیّة أجلّ ممّا ذکره ذلک العارف الجلیل، و أقدس ممّا یناله ید التحدید و التقدیر، و أنزه ممّا یحوم حول حضرته التقیید و التکثیر، و قد عرفت فیما سبق من التفصیل، و انفتح على قلبک بأوضح سبیل، أنّ مراتب الوجود من مُجرّدها و مادّیها من تعیّنات المشیّة معتنقات بالتحدید و التکثیر، متلازمات بالتقیید و التقدیر، کما یراه أصحاب القلوب من الأحرار و أرباب السابقة الحسنى من ذوی الأسرار.
و أمّا الأسماء و الصفات الفعلیّة فهی جمیع مراتب الوجود، و سلسلة النزول و الصعود من عوالم الغیب و الشهود، لا یختصّ بمرتبة من المراتب و لا بحدّ من الحدود، کما هو المحقّق فی محلّه و المبیّن عند أهله(5) و قد فصّلنا القول فی بعض الرسائل(6) و لیس هاهنا محل التحقیق و التفصیل.
و هی مظهر الإرادة الرّبانیّة کما فی توحید المُفضّل من قول مولانا الصادق علیه السلام: «إنَّ الطبیعة تفعل بإرادة اللَّه»(7) و هی الفاعلة فی العالم الکونی الفعل الذی یقابل الانفعال، و نسبة الإیجاد الفعلی- المقابل للانفعال التدریجی إلیها دون نظیرتیها السابقتین لوجهین:
أحدهما: أنَّ الصنع بل الإیجاد باعتبارٍ ممّا یقال فی الحقیقة على عالم الخلق الّذی یقع فیه الفعل و الانفعال التجدیدیین و التحریک و التحرّک الزمانیّین، و مبدأ ذلک العالم من تلک القوّة الشریفة النوریّة فی المادّة القابلة الکلیّة تنفّس الجسم- الذی هو العرش من وجه- تنفّس الصعداء، و باستنشاق المادّة ذلک النفس الرحمانی من قبل الیمن؛ أی الوادی الأیمن من عالم الأرواح- انتظم نظام العلویّات و السفلیّات برمّتها(8)
و أمّا المرتبتان المُقدّمتان- أی العقل و النفس- فهما من عالم الأمر و منزل القدس و الکمال، و لا یجری هناک الفعل و الانفعال و لا الحرکة و الانتقال،
__________________________________________________
و قد تحقّق عند مدارک أصحاب العلم و الحکمة(9) أنّ الإیجاد فی العوالم الخلقیّة و الصنع فی المراتب النازلة کلّما تحقّق فهو من ناحیة النفس أیّة نفس کانت، و أمّا العقل فقد عرفت حاله، و الجسم و الصورة و الهیولى فلیس من شأنها الإیجاد و الصنع، و القوى الجسمیّة من آلات النفوس النباتیّة أو الحیوانیّة أو الإنسانیّة و مظاهرها، لا استقلال لها فی التأثیر و الإیجاد. فتحقّق ممّا مرّ علیک أنّ الموجَد الموجِد أخصّ صفة من صفات النفس، و أوضح علامة من علاماتها، فتبصّر.
بل إنّما تترتّب الآثار على المؤثّرات فی ذلک العالم الشریف بمحض التعقّل و الشوق بل المعقولات فی ذلک العالم نفس التعقّل و الشوق کما یعرفه أهل الذوق، قال اللَّه تعالى: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ»(10) و عند النظر الجلیل ترى أنَّ معلولات عالم الأمر إنّما هی آثار التسبیح و التقدیس الذی طباعهم، و نتائج التهلیل و التمجید الذی شأنهم، و أنّهم لا یفترون من ذلک ساعة و لا یسأمون لحظة یرشدک إلیه:
(أن تسبیحنا یغرس شجرة فی قیعان الجنّة)
کما فی الخبر(11) فکیف الظنّ بتسبیحاتهم و تقدیساتهم مع کمال طهارتهم؟!
و ثانیهما: أنَّ تینک المرتبتین السابقتین هما لیستا من عالم الخلق و الصنع، بل هما ما یعبّر عنه فی لسان الشرع بعالم الأسماء و الصفات(12) لیس إلّا، لکن المرتبة الاولى هی مرتبة الأسماء و الصفات الذاتیة کالعلم و الحیاة و القدرة، و المرتبة النفسیة هی مرتبة الأسماء و الصفات الفعلیّة کالمشیّة و الکبریاء و العظمة، بل النظر الجلیل یرى الاولى هی الصفات الذاتیّة الإلهیّة من حیث المرتبة و الحقیقة، و الثانیة هذه الصفات لکن من حیث الوجود و التحقیق، فنسبة الإیجاد إلى المرتبتین السابقتین لیس کنسبته إلى المکوّنات، بل الإمکان الذاتی فی العوالی محض اعتبار عقلی کما قاله بعض الأعلام(13)
و بالجملة: هذا العالم العلوی عالم الوجوب المتاخم لأُفق الوحدة الحقّة و البساطة المحضة، و قد قیل: «عالم الأمر ما لا حکم فیه للإمکان»(14)
و إلى المرتبة الاولى اشیر بقوله تعالى فی آخر سورة الحشر: «هُوَ اللَّهُ الَّذِی لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَیْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِیمُ»(15) و إلى المرتبة الثانیة بقوله: «هُوَ اللَّهُ الَّذِی لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِکُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَیْمِنُ الْعَزِیزُ الْجَبَّارُ الْمُتَکَبِّرُ سُبْحانَ
__________________________________________________
قوله: و إلى المرتبة الاولى اشیر … إلى آخره.
اعلم أنّ الآیات الشریفة الّتی ذکرها ذلک العارف الجلیل رضى اللَّه عنه و استشهد بها لما جعله التحقیق محتویة عند النظر الدقیق على الأسماء الذاتیّة الثابتة للحضرة الواحدیّة، إلّا أنّ مظاهرها فی العالم الخلقی مختلفة النشأة و الوجود من العقل و النفس و الهیولى و الصورة إلى غیر ذلک.
و قد اصطلح الشیخ «صاحب الفتوحات» فی بعض کتبه «الأسماء الذات» على الأسماء الّتی کانت الذات فیها ظاهرة کالحیّ العلیم، و «الأسماء الصفات» على الّتی کانت الصفات فیها ظاهرة، و «الأسماء الأفعال» على الّتی کان الفعل فیها ظاهراً(16)
فعلى هذا الاصطلاح کانت الآیة الشریفة الاولى مُشیرة إلى الأسماء الصفات، و الآیة الثانیة إلى الأسماء الذات، و الآیة الثالثة إلى الأسماء الأفعال، و أیضاً إنّ الآیة الاولى إشارة إلى صفة الجمال، و الثانیة إلى صفة الجلال، و إن کان فی کلّ صفةِ جمالٍ جلالٌ و فی کلّ جلالٍ جمالٌ.
و فی الآیات الشریفة و تصدیرها بقوله: «هُوَ اللَّهُ الَّذِی لا إِلهَ إِلَّا هُوَ»(17) إشارات و رموزات و علوم و معارف لیس فی هذا المختصر مقام ذکرها، و الأولى إرجاعها إلى طور وراء طورها.
الله عَمَّا یُشْرِکُونَ»(18) و إلى المرتبة الثالثة الّتی نحن بصدد بیانها بقوله: «هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى یُسَبِّحُ لَهُ ما فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ»(19)
و لنرجع إلى ما کنّا فیه فنقول: إنَّ تلک الطبیعة غیر الصورة الفاعلة فی الأجسام، بل هی العنایة الربانیّة الممسکة لنظام العالم، و هی مطلع الإرادة الإلهیّة الّتی هی نفس الفعل- بالفتح- فی الأخبار النبویّة(20) و معنى الموجَدیّة و الموجِدیّة- بالفتح ثمّ الکسر- أنّها فاعلة فی الأشیاء بإذن اللَّه، و معطیة للصور کما شاء اللَّه، و مخلوقة بنفسها من اللَّه إذ الأشیاء مخلوقة بالإرادة و هی مخلوقة بنفسها.
و فی معنى الموجَدیّة و الموجِدیّة فی الطبیعة الّتی هی مطلع الإرادة ما ورد فی الأخبار عن الأئمّة علیهم السلام من:
(أنَّ اللَّه خلق الأشیاء بالمشیّة و خلق المشیّة بنفسها)(21) و هذا بعینه یجری فی الإرادة غیر أنَّ الفرقان بینهما قلیل، و کثیراً ما یعبّر فی الأخبار عنهما بأحدهما، و عن کلّ واحد منهما بالآخر کما لا یخفى؛ حتّى ظنّ من ذلک بعض الأعلام أنّهما صفة واحدة(22)
__________________________________________________
قوله: حتّى ظنّ من ذلک.
لیس فی هذه الرسالة- مع کون بنائها على الاختصار و الإجمال، و الرمز و الإشارة فی المقال- محلّ الحُکومة بین هذین الاستاذین مع کونها خارجة عن وسعی؛ فإنّ تحقیقاتهما أجلّ من أن تنالها أیدینا.
1) رسالتان فی الحکمة المتعالیة و الفکر الروحی للشرف البلاسی: 49، الشواهد الربوبیة: 95.
2) التوحید للصدوق: 232/ 1.
3) اصول الکافی 1: 65/ 6 و 83/ 1 و 84/ 2، التوحید للصدوق: 139/ 2 و 143/ 8.
4) اصول الکافی 1: 83/ 1، التوحید للصدوق: 139/ 1.
5) شرح القیصری على الفصوص: 84.
6) تعلیقة الإمام على الفصوص: 310.
7) بحار الأنوار 3: 67 و 149.
8) فی نسخة «ر» إضافة: إذ ینفخ هذه الصورة الشریفة و بتنفس النفس الإلهیة النفس الرحمانی، استنشقت المادة رائحة الوجود فی عرصة الشهود، فتحقق العالم الجسمانی بکلیّته، و انتظم النظام العلوی و السفلی بجملته.
9) أثولوجیا أفلوطین: 20.
10) یس: 82.
11) ثواب الأعمال للصدوق: 26/ 3، وسائل الشیعة 4: 1026/ 5.
12) الأسفار 6: 187.
13) نفس المصدر 1: 174.
14) مصباح الانس: 118.
15) الحشر: 22.
16) إنشاء الدوائر: 29 و 30.
17) الحشر: 22 و 23.
18) الحشر: 23.
19) الحشر: 24.
20) انظر اصول الکافی 1: 116 باب 26، التوحید للصدوق: 336 باب المشیئة و الإرادة.
21) اصول الکافی 1: 85/ 4، التوحید للصدوق: 148/ 19.
22) مرآة العقول 2: 155، الوافی للفیض الکاشانی 1: 518.