اعلم أنَّ فرط استفهامه علیه السلام بأی الأنفس حینما سأله کمیل عن تعریفه نفسه إیماءً لطیفاً إلى أنَّ هذه الأربع یمکن أن تحصل لسائر الناس، و لمّا استحال تعدّد النفوس لشخصٍ واحد- کما برهن علیه فی موضعه، بل
ذلک قریب من البدیهی لمن تجافى عن تعسفه و رجع إلى نفسه- فقد ظهر للمستبصر أنَّ تلک الأربع إنّما هی قشور، و ألباب بعضها فوق بعض على نظام و نسق متّسق کما یشیر إلیه قوله سبحانه: «لَتَرْکَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ»(1) و إنّما التفاوت فی الأنواع و الأشخاص بظهور بعضها فی نوع أو شخص و کمون بعضها فیه إلى حیث ینتهی فی الشرف إلى شخص یظهر فیه الکلّ، و فى الخسیّة إلى آخر یبطل فیه القل و الجلّ، کما قال سبحانه: «تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ»(2) و قال تعالى: «فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ»(3) إلى غیر ذلک من الآیات.
و من أمارات التطابق المذکور کون الکلّ ذوات خمس قوى و خاصّیّتین؛ فإنّ ذلک مُشعر بأنَّ کلّ لاحقة هی تنزّل السابقة، لکونها لما علمت إذا خطرت بالبال فی عالمها ما یوجب سقوط جناحها الّذی تطیر به فی فسحة الجنان وقعت فی شبکة تلک اللّاحقة، و هکذا إلى أن هبطت إلى الأرض السافلة، و أنَّ هذه اللّاحقة إذا ارتاضت بما یوجب ارتیاشها، و تخلّصت من الذنوب الّتی أحاطت بها، من التعبّد بالأحکام الإلهیّة و التقلّد بالنوامیس الربانیّة، طارت إلى وکرها الأصلی و رجعت إلى عالمها العلوی.
فلنشرع فی تطبیق القوى فی المراتب الأربع على الولاء.
فنقول: بالحریّ أن نذکر ذلک بین کلّ مُتجاورین لیظهر من ذلک انطباق الکل فی البین، فاعلم أنّ الجذب یضاهی السمع؛ لأنَّ جذب الصماخ للصوت یصیر سبب السماع، و الإمساک یضاهی الإبصار بناءً على ما هو الحق عندنا من أنَّ الإبصار إنّما یکون فی خارج باستیلاء نور النفوس على
ظاهر الشیء المحسوس کأنّه یحفظه و یمسکه لتنال النفس منه ما تنال، و قد تقرّر أیضا فی مدارک أرباب الأذواق الإلهیّة أنّ إمساک السماوات و الأرض و ما فیهما إنّما یتسبّب عن الاسم البصیر، و لذلک ورد فی تفسیر قوله تعالى: «وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَیْنِی»(4) أی على حفظی(5) و قال تعالى: «ما یُمْسِکُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ بَصِیرٌ»(6)
و الهضم یضاهی الذوق؛ لأنَّ تلک القوّة مبدأ مبادئ الهضم، و کذا الدفع یضاهی اللّمس؛ لأنَّ عمدة منافع اللّمس رفع المُنافر، و کذا التربیة تضاهی الشمّ؛ لأن القوى الدماغیّة هی العمدة فی التربیة.
ثمّ البصر یحاذی الفکر؛ لأنَّ النظر أصل الفکر فی عالم الکون، کما أنَّ الفکر أصل النظر فی العالم العلوی، و کذا السمع یحاذی الذکر الّذی ارید به قوّة الحفظ، و قد دریت أنَّ الجذب و الحفظ من السمع، و کذا الذوق یحاذی العلم؛ لأنَّ العلم غذاء الروح، و کذا اللمس یحاذی الحلم؛ لأنَّ تلک القوّة إنّما شأنها تحمّل المشاقّ من توارد الحرّ و البرد، و لکونها مُتسبّبة عن لینة الأعصاب إلى مرتبة یتأتّى منها الإحساس اللمسی، و کذا الشمّ یحاذی النباهة الّتی هی طلب الشرف و الرفعة؛ لأنّها تنشأ من الدماغ الذی هو معدن تلک القوّة.
ثمّ البقاء فی الفناء إنّما یتحصّل من النظر و الفکرة فی الأشیاء بأنّها لا شیئیّة لها إلّا باللَّه تعالى، و النعیم فی الشقاء إنّما یکون بتذکر الحقائق المُنتزعة من الکائنات، و تصفیة تلک الأنوار من کدورات الجسمانیّات، و کذا العزّ فی الذلّ إنّما یتیسّر بالریاضات العلمیّة، و الفقر مع الغناء
إنّما یحصل بالحلم و تحمّل المشاقّ مع الاستغناء عن الناس، و کذا الصبر مع البلاء؛ لأنَّ العزّة فی أیّ موطن تراد إنّما تتأتى بالصبر على المصائب و البلاء.
1) الانشقاق: 19.
2) التوبة: 55.
3) الحشر: 19.
4) طه: 39.
5) مجمع البیان 7: 18، تفسیر الفخر الرازی 22: 54.
6) الملک: 19.