و ممّا یؤکد ما أصّلنا و یؤیّد ما أسّسنا
ما روی عن أمیر المؤمنین صلوات اللَّه علیه أنّه سأله أعرابیّ عن النفس، فقال علیه السلام له: (عن أیّ الأنفس تسأل)
__________________________________________________
و الصفات(1) لا على زعم المُعتزلة على ما حُکی عنهم(2) فاعرف هذا فإنّه باب واسع ینفتح منه أبواب کثیرة، و قد أشرنا إلى لمحة منها فی شرح بعض الأدعیة(3)
قوله: سأله أعرابیّ عن النفس … إلى آخره.
فی هذا الخبر الشریف أسرار غریبة أشار إلى بعض منها ذلک العارف الکامل رضی اللَّه عنه، و نحن نُشیر إلى لمحة منها بطریق الإجمال بعون اللَّه المُتعال، و یبقى الآخر تحت الأستار، و لعلّه یکشف على قلب أهله ولی الأسرار، فنقول:
فی إفراد القوّة فی المواطن الأربعة إشارة خفیّة على ما هو التحقیق عند أصحاب
…………………………………………………………………………
__________________________________________________
الحکمة و العرفان و أرباب الطریقة و البرهان من أنّ القوى المتشتّتة النباتیّة و الحیوانیّة و الإنسانیّة- مع تشتّتها و کثرتها و تفرّقها بتفرّق محالّها- تجمعها حقیقة واحدة و کلمة فاردة(4) هذه الکثرات سدنتها، و هذه المتفرّقات خدمها و حشمها، کما صرّح بذلک فی حدیث کُمیل بن زیاد الآتی حیث قال علیه السلام فی کلّ من النفوس الأربعة أنّ «له خمس قوىً و خاصّیّتان» و إن کانت النفوس الأربعة لها أحکام مُختلفة، و لسدنتها و حشمها وجودات مُتفاوتة فی الشدّة و الضّعف، و فی بعضها کانت القوى و السدنة مُتّحدة الوجود مع النفس حدّاً و مرتبة و لیست مُتکثّرة مُتشتّتة، و لیس هذا مقام تفصیلها و بسطها.
و أشار علیه السلام بقوله: «أصلها الطباع الأربع» إلى ما حُقّق عند المُحقّقین من الحُکماء العظام أنّ النفس جسمانیّة الحدوث و طلوعها یکون من المادّة الجسمانیّة و إن کانت بعضها روحانیّة البقاء(5)
و أمّا قوله علیه السلام فی النفس النباتیّة: «أصلها الطباع الأربع» و فی النفس الحیوانیة: «أصلها الأفلاک» و فی النفس الکلیّة: «أصلها العقل» و عدم التعرّض لأصل النفس النطقیّة فللإشارة إلى أنّ المادّة الّتی تفیض علیها النفس النباتیّة مادّة کدرة غیر صافیة، بخلاف النفس الحیوانیّة فإنّ مادّتها من جنس الأفلاک لها صفاء و خلوّ عن کدورات تلک المادّة الموجودة عندنا، و أنّ النفس الکلیّة الإلهیّة و إن کانت طلیعة وجودها من مادّة صافیة فی کمال النقاوة إلّا أنّ هذه النفس لکمال روحانیّتها و علوّ شأنها قریبة الافق بعالم المجرّدات و قطّان عالم الجبروت، فهی مُلحقة بالآباء العلویّة و الجهات الفاعلیّة، لا الامّهات السفلیّة و الحیثیّات القابلیّة، حتّى ثبت عند أصحاب
…………………………………………………………………………
__________________________________________________
الکشف النوری أنّ الأنوار الأسفهبدّیة(6) ماهیّاتها إنّیاتها، و أهل یثرب الإنسانیّة لا مقام معلوم له و لا حدّ محدود عنده(7)
و عدم التعرّض لأصل النفس الناطقة القُدسیّة فلعلّه لإلحاقها بالنفس الکلیّة؛ و لهذا قال فی کل واحدٍ منهما: إنّها قوّة لاهوتیّة، و یمکن أن یکون فی قوله علیه السلام:
«مقرّها العلوم الحقیقیّة» بالبیان الذی ذکره ذلک العارف العظیم، مع قوله علیه السلام:
«موادّ التأییدات العقلیّة» إشارة خفیّة إلى أنّ أصلها العقل کما لا یخفى على ذوی السابقة الحسنى.
و فی قوله: «أصلها الطباع الأربع» إشارة خفیّة إلى ردّ من زعم أنّ النفس هی المزاج(8) کما أنّ فی عدّة مواضع منه إشارة ظاهرة إلى ذلک کما لا یخفى.
و أشار علیه السلام بقوله: «عادت إلى ما بدأت منه» إلى الکینونة السابقة الّتی لها فی النشآت السابقة و العوالم العقلیّة کما هو رأی أفلاطون الإلهى(9) و أشرنا سابقاً إلى الخلاف الذی بینه و بین مُفید الصناعة الحکمیّة، و فیه أیضاً إشارة إلى أنّ ما بدأت الأشیاء منه عین ما انتهت إلیه.
و یُحتمل أن یکون قوله: «عود ممازجة لا عود مجاورة» إشارة إلى ما هو المُحقّق عند بعض أساطین الحکمة(10) أنّ القوى المُنغمرة فی المادّة ما لم تتجرّد تجرّد الخیال معادها یکون بالاتصال إلى العالم العقلی اتّصال الماء الذی فی الکیزان على شاطئ البحر إذا انکسرت الکیزان و اتّصل الماء بالبحر، بخلاف القوى المجرّدة تجرّداً خیالیّاً
…………………………………………………………………………
__________________________________________________
و النفوس القُدسیّة النطقیّة فإنّ رجوعها إلى عوالم الروحانیّات مع بقاء فعلیّاتها التجردیّة، و عندنا کلّ العوالم الوجودیّة من المراتب الغیبیّة و الشهودیّة مرجعها إلى الإطلاق الوجودی و العدم المحض عند طلوع شمس الحقیقة و بروز سلطنة الوحدانیّة و المالکیّة المُطلقة، فإنّ مقام المالکیّة مقام قبض الوجود، کما أنّ مقام الرحمانیّة و الرحیمیّة مقام بسطه و بسط کماله.
و هذا الّذی ذکره ذلک الحکیم المتألّه غیر ما ذکرنا؛ فإنّ کلامه فی مقام و کلامنا فی مقام، و إلى ما ذکرنا أشار العارف الحکیم المولوی فی نظمه المثنوی بقوله بعد عدّة أشعار فی مراتب السیر إلى النشآت المتتالیة و العوالم الوجودیّة.
پس عدم گردم عدم چون ارغنون++
گویدم کأنّا إلیه راجعون(11)
و هذا من الأسرار فاحتفظ به و دعه یبقى تحت الأستار، و لا تذعه على أهل هذه الدار، فإنّهم من الأغیار، و ببالی أنّى رأیت فی سالف الزمان فی «الکافی» الشریف مبلغ أسرار أهل الذکر و القرآن أنّ بعض نفوس المستضعفین من الإنسان یبطل و یهلک عند عروض الموت على الأبدان(12) و صرّح ذلک الحکیم المتألّه المتقدّم ذکره فی بعض کتبه- على ما ببالی- بذلک المقال(13) کما أنّه صرّح بأنّ مرجع الحرکة و الزمان و أشباههما إلى الهلاک و الاضمحلال(14) و إن کان ذلک العارف الکامل الشارح عارضه و ردّ علیه و نسبه إلى الغفلة و المُناقضة فی الکلام، و عندی وجه جمع بین الرأیین بحیث یرتفع الجدال من البین، و لیس فی هذا المختصر مقام البسط و التفصیل
…………………………………………………………………………
__________________________________________________
عسى اللَّه أن یوفّقنا لإفراد رسالة فیه إنّه هادی السبیل.
و فی قوله علیه السلام: «جوهرة بسیطة» إشارة بطریق اللّم إلى أنّ النفس الکلیّة الإلهیّة کلّ الأشیاء بنحو الوحدة و الجمعیّة، کما أنّ فی قوله علیه السلام: «حیّة بالذات» أیضاً إشارة لمیّة إلى بقائها و عدم فنائها.
و قوله: «و عودتها إلیه» و قوله: «و إلیها تعود» مع کون المیعاد إلى ربّ العباد، فهو إمّا مبنیّ على أنّ العود إلى کلّ واحد منها هو العود إلیه تعالى، بل التوجّه إلى کلّ موجود هو التوجّه إلى اللَّه تعالى «فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ»(15)
و ورد عن رسول اللَّه صلّى اللَّه علیه و آله: (لو دُلّیتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبطتم على اللَّه)(16)
و هذا من علم الراسخین و المتدبّرین فی کلام الأئمّة المعصومین علیهم السلام.
و إمّا مبنیّ على ما هو التحقیق عندنا من أنّ عود الموجودات إلى اللَّه تعالى بتوسّط الولی المُطلق صاحب النفس الکلیّة الإلهیّة و واجد مرتبة العقل، و أنّ الموجودات بمنزلة القوى و الآلات و المتفرّعات من وجود الإنسان الکامل، فکما أنّ بدو إیجادها من الحضرة الغیب بتوسّط ربّ الإنسان الکامل، و فی الحضرة الشهادة بتوسّط نفس الإنسان الکامل، کذلک عودها و ختمها، و لهذا کانت استقامة الامّة استقامة رسول اللَّه صلّى اللَّه علیه و آله و ورد منه صلّى اللَّه علیه و آله عند قوله تعالى- فی سورة هود-: «فَاسْتَقِمْ کَما أُمِرْتَ»(17)
(شیّبتنی سورة هود)(18)
لمکان هذه الآیة، و إلّا فهو صلّى اللَّه علیه و آله بوجوده المقدّس میزان الاستقامة.
فقال: یا مولای هل النفس أنفس عدیدة؟
فقال علیه السلام (نفس نامیة نباتیّة، و حسیّة حیوانیّة، و ناطقة قدسیّة، و إلهیّة کلیّة ملکوتیّة).
قال: یا مولای ما النباتیّة؟
قال علیه السلام: (قوة أصلها الطبائع، بدء إیجادها عند مسقط النطفة، مقرّها الکبد، مادتها من لطائف الأغذیّة، فعلها النموّ و الزیادة، و سبب فراقها اختلاف المتولّدات، فإذا فارقت عادت إلى ما منه بدأت عود ممازجة لا عود مجاورة).
فقال: ما النفس الحیوانیّة؟
قال علیه السلام (قوة فلکیّة و حرارة غریزیّة أصلها الأفلاک، بدء إیجادها عند الولادة الجسمانیّة، فعلها الحیاة و الحرکة و الظلم و الغشم و الغلبة و اکتساب الأموال، و الشهوات الدنیویّة، مقرّها القلب، و سبب فراقها اختلاف المتولّدات، فإذا فارقت عادت إلى ما منه بدأت عود ممازجة لا عود مجاورة فتعدم صورتها و یبطل فعلها و وجودها فیضمحل ترکبها).
فقال: ما النفس الناطقة القدسیّة؟.
قال علیه السلام: (قوّة لاهوتیة، بدء إیجادها عند الولادة الدنیویّة، مقرّها العلوم
__________________________________________________
و ورد فی بعض الأدعیة عند الدعاء لبقیّة اللَّه فی الأرضین و حجّة اللَّه على العالمین صاحب الأمر صلوات اللَّه علیه و أرواحنا له الفداء بقوله:
(أمناً یعبُدک لا یُشرک بک شیئاً)(19)
مع کونه روحی له الفداء خالصاً عن أنحاء الشرک فعلًا و صنةً و ذاتاً، فشرک الامّة و عبادتهم یعدّ منه، لکونه الأصل و سائر الناس من فروعه.
و هاهنا أسرار و رموز نترکها خوفاً من أبناء الزمان و الإطالة فی البیان، فإیّاک أن تفشو هذه الأسرار عند أهل هذه الدیار.
الحقیقیة الذهنیّة، موادّها التأییدات العقلیّة، فعلها المعارف الربانیّة، سبب فراقها تحلّل الآلات الجسمانیة، فإذا فارقت عادت إلى ما منه بدأت عود مُجاورة لا عود مُمازجة).
فقال: ما النفس اللاهوتیّه الملکوتیّة؟
فقال علیه السلام: (قوّة لاهوتیّة، و جوهرة بسیطة، حیّة بالذات أصلها العقل منه بدأت و عنه دعت، و إلیه دلّت و أشارت، و عودتها إلیه إذا کملت و شابهت، و منها بدت الموجودات و إلیها تعود بالکمال، فهی ذات العلیا و شجرة طوبى و سدرة المنتهى و جنّة المأوى، من عرفها لم یشق أبداً، و من جهلها ضلّ و غوى).
فقال السائل: ما العقل؟
قال علیه السلام: (جوهر درّاک محیط بالأشیاء من جمیع جهاتها، عارف بالشیء قبل کونه، فهو علّة للموجودات و نهایة المطالب)(20)صدق ولیّ اللَّه.
1) شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 161.
2) توضیح الملل 1: 70، اعتقادات فرق المسلمین و المشرکین للفخر الرازی: 27.
3) شرح دعاء السحر 79: فی ذیل قوله «اللهم إنی أسألک من أسمائک بأکبرها).
4) الأسفار 8: 221.
5) الأسفار 8: 347، الشواهد الربوبیة: 221.
6) المراد بها النفس الناطقة، انظر مجموعة مصنفات شیخ الإشراق 2: 147.
7) الأسفار 8: 342.
8) بحار الأنوار 58: 77، الأسفار 8: 244.
9) الأسفار 8: 330 الهامش الأول و 331.
10) الفتوحات المکیة 3: 12، الأسفار 9: 252 و ما بعدها.
11) مثنوی مولوی، الدفتر الثالث، البیت: 3906.
12) انظر الکافی 3: 235 باب المسألة فی القبر.
13) الأسفار 8: 375 و 376، الشواهد الربوبیة: 224 و 225، مفاتیح الغیب: 551 و 552.
14) الأسفار 9: 263 و 264.
15) البقرة: 115.
16) العلل المتناهیة لابن الجوزی 1: 13، 2: 14، الدر المنثور 6: 170، علم الیقین 1: 54.
17) هود: 112.
18) مجمع البیان 5: 304، الکشاف 2: 433، تفسیر البیضاوی 1: 473.
19) مصباح المتهجد: 523.
20) کلمات مکنونة للفیض الکاشانی: 76.